تفاوض سري واتصال لسحب الخط 29: رحلة 'الخطيئة الأصلية' وصولا الى 23
مقالات وتحقيقات |
الجمعة ٧ تشرين أول ٢٠٢٥

اعتمد «الوفد» اللبناني على دراسة للمكتب الهيدروغرافي البريطاني وُضعت في العام نفسه تحدد الخط الحدودي الجنوبي بين لبنان وفلسطين المحتلة. اتفاق الترسيم الذي تم التوصل إليه بين البلدين في 17 كانون الثاني 2007، بعد ثلاثة أشهر من المفاوضات «غير الشاقة» على ما يبدو، أسّس لـ«الخطيئة الأصلية» التي أدّت إلى تشابك الخطوط في ما بعد، وضيّع على لبنان مساحات من مياهه الاقتصادية الخالصة وسنوات من المفاوضات. رُسم خط الترسيم مع قبرص من النقطة 1 جنوباً الى النقطة 6 شمالاً. النقطتان تقعان داخل الحدود اللبنانية، واعتمدتا بعد التراجع خمسة أميال عن النقطة الثلاثية في الجنوب بين لبنان وقبرص وفلسطين المحتلة. بُرّر التراجع يومها بعدم إمكان إجراء مفاوضات مع العدو الإسرائيلي، وبصعوبة دخول حكومة السنيورة في مفاوضات مع سوريا في ذروة الخلاف مع دمشق عقب مقتل الرئيس رفيق الحريري، على أن يتم تحديد النقطتين الثلاثيتين لاحقاً.
كان هذا الخطأ الأول في سلسلة طويلة من الأخطاء، فضلاً عن أسئلة كثيرة لا تزال من دون إجابات: أليس البتّ في ملف سيادي ووطني أخطر من أن يُترك في عهدة وزارة واحدة وشخص واحد ؟ لماذا تم اعتماد خط الوسط لترسيم الحدود بين لبنان وقبرص، علماً أن واجهة لبنان البحرية أكبر من واجهة قبرص ما يُفترض أن يعطيه مساحة أكبر من المياه الاقتصادية الخالصة بموجب اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار؟ وما هي الحكمة في التراجع عن النقطة الحدودية الثلاثية مع فلسطين خمسة أميال إلى الشمال بدل التقدم جنوباً إلى الحد الأقصى، ما دام أن «الدولة الثالثة» هي كيان العدو القائم على الأطماع ومنطق القوة؟
في العادة، تعيّن الدول حدودها قبل أن تتفاوض على ترسيمها مع الدول المجاورة. هنا كانت الآية معكوسة. فاوض لبنان قبرص على الترسيم ووقّع اتفاقاً معها في 17 كانون الثاني 2007، وبعد عامين، في 30 كانون الأول 2008 شكّل «اللجنة اللبنانية المشتركة» التي شاركت فيها قيادة الجيش لوضع تقرير حول حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة للدولة اللبنانية. كانت اللجنة برئاسة القيسي نفسه، مرتكب الخطأ الأساسي. بعد أربعة أشهر، في 29 نيسان 2009، وضعت اللجنة تقريرها مرفقاً بخريطة رسّمت حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة اللبنانية من الجهات الثلاث: الخط 23 مع فلسطين المحتلة، الخط 23 – 7 مع قبرص، والخط 7 مع سوريا. ورُسم بشكل متعامد مع الاتجاه العام للشاطئ، بذريعة عدم امتلاك إحداثيات الشاطئ الإسرائيلي.
وهنا أيضاً أسئلة بلا إجابات: لماذا أعطت اللجنة تأثيراً كاملاً لصخرة تخيليت، ما أثّر على مسار الخط رغم أنها غير ملزمة بذلك كونها ترسّم من جانب واحد، ورغم وجود مرحلة تفاوض مستقبلية؟ والأهم، رغم أن النقطة 23 لم تكن الخيار الأفضل، لماذا لم يتم التواصل مع قبرص لطلب تعديل اتفاق الترسيم باعتماد النقطة 23 بدل النقطة 1، طالما أن الاتفاق ينص بوضوح على أنه تم التراجع عن النقطتين الثلاثيتين شمالاً وجنوباً في انتظار المفاوضات المستقبلية مع الدول المجاورة؟
رسالة قبرصية ملغومة
في 19 تشرين الأول 2010، تلقّت السفارة اللبنانية في نيقوسيا رسالة من الخارجية القبرصية تؤكد أن سلطات الجزيرة، قبل أن تتوصل الى اتفاق نهائي على ترسيم الحدود القبرصية مع أي من الدول المجاورة، ستُعلم لبنان إذا ما كان لذلك أي «تأثير» (effect) على النقطتين 1 و6.
على ما يبدو، لم يكلف أحد في الخارجية، يومها، نفسه تمحيص الرسالة ومراجعة نص اتفاق الترسيم مع قبرص، والذي ينص على ضرورة إبلاغ نيقوسيا بيروت بأي مفاوضات ترسيم تجريها مع دولة ثالثة «تتعلق» (in connection) بالنقطتين 1 و6، وليس أن «تؤثر» عليهما. بعد شهرين، في كانون الأول 2010، وقّعت قبرص اتفاق ترسيم مع إسرائيل التي اعتمدت النقطة 1 لرسم الخط 1. عملياً، وجهة النظر القبرصية هنا أن الخط 1 لم يؤثر على النقطة 1 التي حدّدها المفاوض اللبناني بنفسه!
إصرار على تشريع الخط 23
في 18 آب 2011، أقر مجلس النواب القانون 163 الذي يفوّض الحكومة أن تصدر بمرسوم يُتخذ في مجلس الوزراء إحداثيات النقاط التي تشكل الحدود البحرية اللبنانية. أثناء درس القانون في لجنة الأشغال النيابية، استشرس رئيس اللجنة النائب محمد قباني في رفض اقتراحات تقدّم بها ضباط وخبراء تؤكد أن للبنان حقوقاً جنوب الخط 23.
المفارقة أنه قبل يوم واحد من إقرار القانون، وصلت إلى رئاسة الحكومة (نجيب ميقاتي) دراسة أعدّها المكتب الهيدروغرافي البريطاني (UKHO)، بتكليف من الحكومة اللبنانية في حزيران من العام نفسه، تقترح عدة خيارات من ضمنها الخط 23، وخطان جنوبه أحدهما لا يحتسب تأثيراً لصخرة تخيليت عُرف لاحقاً بالخط 29. غير أن التقرير بقي حبيس أدراج مكتب رئيس الحكومة من دون معرفة الأسباب. في 1 تشرين الأول 2011، صدر المرسوم الشهير 6433 الذي حدّد الخط 23 حدوداً بحرية للبنان مع فلسطين المحتلة، وتم إيداعه لدى الأمم المتحدة. هنا، وُلدت المنطقة المتنازع عليها بين الخطين 1 و23 بمساحة 860 كيلومتراً مربعاً.