إيواء القاصرين والقاصرات في السجون اللبنانية: 'تأهيل' الأحداث ليصبحوا 'مجرمين'!
متفرقات |
الجمعة ١٩ كانون أول ٢٠٢٤
يقع مركز «مبادرة» في محيط مستشفى ضهر الباشق الحكومي، وقد أسسته وزارة العدل بالتعاون مع وزارة الداخلية ومكتب الأمم المتّحدة المعني بمكافحة المخدرات والجريمة (UNODC)، وهو يُعنى بتأهيل الفتيات المُخالفات للقانون واللواتي صدرت بحقهن مذكرات توقيف أو اتخذت محكمة الأحداث بحقهن تدابير تأديبيّة أو عقوبات مخفّضة.
«راح نص طفولتي»، هكذا تصف «نور» (اسم مستعار) حالها بعد أكثر من ثلاث سنوات أمضتها في مبنى المركز الذي خصّص الموقع الإلكتروني التابع لوزارة العدل أكثر من 7 صفحات للحديث عنه وعن «الحياة الوردية» التي يوفّرها للفتيات: العيش في ظروفٍ اجتماعيّة ونفسيّة آمنة، ومشاريع تأهيل وتدريب، وبرامج تعليم وإنتاج... يبدو هذا بعيداً كلّ البعد عن الحياة التي عاشتها «نور» وزميلاتها الموقوفات. يكفي أن تُعدّد المرّات التي حاولت فيها الانتحار لتبيّن المأساة التي كانت تعيشها في المركز الذي دخلته قبل أن تتجاوز الـ12 عاماً، بعدما هربت من منزل جدتها لوالدها وضُبطت وهي تتعاطى المخدّرات.
فجأة وجدت نفسها في مركزٍ غريب (يضمّ تسع فتيات في ثلاث غرف بإدارة المربّية م. ر) تتشارك غرفة واحدة مع ثلاث فتيات يكبرنها بسنوات. لم تفهم الفتاة الصغيرة لماذا كانت الفتيات الثلاث «يلتصق» بعضُهن ببعض ليلاً، ولماذا دعتها إحدى الموقوفات بتهمة الدعارة للاتصال بها حالما تخرج من المركز لتجد لها «شاباً جميلاً يهتم بها»، فيما عرضت موقوفة أخرى تعليمها «كار» سرقة السيارات؟. ولم تملك شيئاً أمام استقواء موقوفات أخريات عليها و«تشليحها» الثياب التي اشترتها لها والدتها من جهة، وأمام عقاب الحارسات اللواتي اتهمنها بممارسة العادة السرية لأنها تنام بملابسها الداخلية. معظم وقتها تمضيه جالسة على سريرها من دون أي حركة، و«سلوتها» الوحيدة هي الدقائق الطويلة التي تقضيها في المرحاض عندما يكون خالياً لاسترجاع قدرتها على الكلام وممارسة هوايتها بالغناء. عانت صدمةً نفسيّة وقلقاً مرضياً جعلاها غير قادرة على النوم، وقضت أياماً طويلة تحت الحرام الصوفي تبكي بحرقة، حتى أُحيلت إلى الطبيب النفسي الذي نصح بإعطائها دواء مضاداً للقلق لتتمكن من النوم. لم تفهم «نور» من الطبيب سوى كلمة واحدة: «دوا أعصاب» فرفضت تناوله. بعد سفر الطبيب وامتناع إدارة المركز عن متابعة حالتها النفسيّة مع طبيبٍ آخر، لم يجد المسؤولون حلاً لـ«عصيان» الأوامر سوى إحالتها إلى الغرفة الانفرادية التأديبية في سجن رومية. هناك، تم تقييدها بـ«الكلبشة» ورمى عليها العسكري مياهاً باردة وبدأ بضربها. في كل مرة يُطلب من «نور» الانتقال إلى الغرفة الانفراديّة التي تقع في الطابق نفسه، كانت تعرف أن عسكريي رومية سيقومون بضربها. ومع ذلك، فإنّ الرعب الأكبر بالنسبة إليها هو بقاؤها في غرفة مظلمة لمدة 3 أيّام، هي التي تخاف من العتمة. الرعب منعها من الشكوى إلى والدتها التي كانت تزورها أسبوعياً، وفي كل مرة تُلاحظ أن ابنتها «تحوّلت إلى جسدٍ بلا روح، بالكاد تتكلّم ومن دون أن تتمكّن من التعبير عمّا يجول في خاطرها».
رواية «نور» تتقاطع مع رواية زميلتها «سمر» (اسم مستعار) التي تؤكّد تعرّضها للتحرّش والضرب من قبل العسكريين. واقع كان أكبر من قدرة «نور» على تحمّله، ما دفعها إلى أكثر من محاولة انتحار بالتشطيب أو محاولة خنق نفسها بالثياب والحرام الصوفي، فكان عقابها الاحتجاز في الغرفة الانفرادية، في مركز يُفترض أن يوفّر للقاصرات رعاية نفسيّة وبيئة آمنة.
التأهيل مفقود
الوقت يمرّ بطيئاً جداً على القاصرات في مركز «مبادرة»: الكتب والدفاتر ممنوعة في مركزٍ يقول عنه موقع وزارة العدل إنّ «البرامج التربويّة أولوية (فيه) للقاصرات اللواتي لم تتسنّ لهن فرصة الحصول على ثقافة مدرسيّة مناسبة لعمرهنّ»، وإن «هذا البرنامج من مسؤولية مدير النشاطات الاجتماعية، وهو يتمحور على مستويين أو أكثر: تعليم الأميّات، رفع المستوى المدرسي، المعلوماتيّة».
لا تفقه «نور» أياً من العبارات التي يوردها الموقع، لكنّها تؤكد أن أياً من هذا غير موجود أصلاً في المركز، إذ إن برامج التأهيل محصورة، بحسب السجينات القاصرات، بجمعيّة تُجري دورات تدريبيّة على تعليم الخياطة والكروشيه يومي الإثنين والأربعاء، إضافة إلى جمعيّة الإرشاد والإصلاح التي كانت تعلّم السجينات الرسم يوم الخميس. بالنسبة إلى «نور»، التأهيل الوحيد الذي لحقها هو اكتسابها مهارة تنظيف المراحيض والغرفة الخاصة بها وبزميلاتها، ومشاهدة «مدام روزي» تطبخ لهن الملوخيّة كل يوم جمعة.
المصدر: صوت كل لبنان