اكراماً لشهداء ارمينيا بقلم الدكتور يوسف نجيب ساسين
لبنان |
الجمعة ١٩ نيسان ٢٠٢٤
منذ القرن السادس قبل الميلاد، كان الأرمن ينتشرون في "جبال ارارات"، ومنابع دجلة والفرات، وكانت اللغة الأرمنية تكتب بالأحرف اليونانية، ولكن الاحتلال الفارسي في حينه منع استخدام الاحرف اليونانية في أراضي المملكة الفارسية، الامر الذي استدعى الى استحداث ابجدية ارمنية خاصة. وقد تم ذلك في القرن السادس الميلادي، على ايدي مجموعة من الرهبان، الذين قاموا بترجمة الكتاب المقدس وكتبوه باللغة المستحدثة والتي تسمى: الابجدية الأرمنية الكلاسيكية. وقد اعتنق الشعب الأرمني كدولة مستقلة في ذلك الحين، الديانة المسيحية في العام 301 ميلادي.
ومع الأسف الشديد إن معرفتنا عن حضارة أرمينيا القديمــة شحيحــة جداً وبصورة ملحوظة بسبب إبادة وإفناء كامل التراث الوثني في أرمينيا من قِبل المسيحية المنتصرة في سنة 301 ميلادية حين أعتنق البلاط والشعب الديانة الجديدة، فأصبحت أرمينيا أول دولة على الأرض تعترف بالمسيحية ديناً رسمياً لها حتى قبل الإمبراطورية الرومانية آنذاك التي اعتنقت الدين المسيحي سنة 317 ميلادية.
وقد وقع الشعب الأرمني لاحقاً تحت احتلال الامبراطورية البيزنطية والامبراطورية الفارسيـة الإسلاميـة، ولكن الأرمن هبوا واستعادوا استقلالهم مع السلالـة البقرادونية التي أسست مملكة سميت أرمينيا. وبعد سقوط هذه المملكـة (عام) 1045 وغزو السلاجقة لأرمينيا عام 1064، استعاد الأرمن المبادرة وأسسوا من جديد مملكتا في "قيليقية" التي صمدت حتى العام 1375.
منذ بدايات القرن السادس عشر، خضعت أرمينيا الكبرى لسيطرة الحكم الصفوي الفارسي، الا ان الشطر الغربي من أرمينيا رزح في الوقت نفسه، وعلى مدى سنين طويلة للحكم العثماني، في حين استقرت أرمينيا الشرقية تحت الحكم الفارسي. وبحلول القرن التاسع عشر، غزت روسيا أرمينيا الشرقية وتم تقسيم أرمينيا الكبرى بين الإمبراطوريتين العثمانيـة والروسيـة.
في بدايات القرن العشرين، تعرض الأرمن الذين كانوا تحت سيطرة السلطنة العثمانية، للإبادة الجماعية على يد حكومة مهتزة السلطات، بفعل الحركات الشعبيـة المتمردة، وبروز جمعيات سرية متناقضة، تحارب السلطنة خفيـة من جهـة، وتتصارع فيما بينها، على نظام متهالك وفاسد، مع ميول عرقية وعنصرية ودينية.
وقد ظهر هذا الاتجاه العدائي للأرمن، في أواخر القرن التسع عشر، حين تأسست في السلطنة، مجموعات أطلق عليها اسم: الفرق الحميديـة، وحدث ذلك ما بين 1894 الى 1896. وتتكون الفرق، من مجموعـات كرديـة مسلمـة، وهي تتبع بالولاء للسلطان عبد الحميد تحديدا. وتشير بعض المراجع التاريخية الى سقوط ما يزيد عن 100000 قتيل من الأرمن على يد هذه المجموعات في تلك الفترة الزمنية فقط.
لاحقا وفي تلك الفترة تحضرت الدولة العثمانية لإعلان دستور 1908 وانغمست الطبقة الارستقراطية العثمانية بالهجوم على الأرمن المتدينين الذين يسعون للحرية، وعملت الفرق الحميدية، على التنكيل بهم وساعدت في ذلك بعض الجمعيات السرية، الإصلاحية بالاسم، التي نشطت في ذلك الزمن تحارب السلطة والمتدينين الأرمن في نفس الوقت. وكان على رأس من ادعي الحركـة الإصلاحيـة، ما سمي بذلك الزمان: جمعيـة تركيـا الفتاة، وجمعيـة الاتحـاد والترقي، حيث اتجهوا بشكل منفصل نحو التنكيل بالأرمن المسيحيين في الديانة.
وشارك في هذا الاتجاه حزب الاحرار الدستوريون، ويمكن القول ان أنصار عبد الحميد قادوا اساسا هذه المؤامرة، وهم الذين عرفوا باسم الرجعيون الراديكاليون، ومن هذا التصنيف يمكننا استنتاج مقدار العنصرية والتعصب الذي سيشارك في الحرب الهمجية على الأرمن، وخاصة في مرحلة الضعف الشديد الذي وصلت اليه السلطنة في تلك المرحلة.
والواقع انه ما ان خرجت الامبراطورة العثمانية، من هزيمتها الشنيعة الكاملة مع الجيش الروسي، حتى ازدادت في التعصب الديني شكلا، والرجعي العرقي واقعا.
أدى هذا الامر الى انحطاط القيم، حيث ذكرت بعض الوثائق، الى اختفاء ما بين 30000 الى 60000 ألف مواطن ارمني، كانوا يعيشون تحت ظل التعصب العثماني، في ذلك الزمان، شهداء الحرية في تلك المرحلة.
واستمرت مأساة الشعب الأرمني لفترة طويلة. وفي العام 1914 وبعد اندلاع الحرب العالمية الأولى حيث انغمست السلطنة في غمارها وهي متهالكـة اصلا، ازداد العداء للأرمن المواطنين الاتراك العاديين العزل، واستنفرت العقليـة الاجراميـة لدى السلطة، مستفيدة في تلك الأيام العصيبة، من انشغال العالم بالحرب الشاملة، لتلجأ الى إطلاق مجموعاتها من المجرمين، وهم الذين تم تسليحهم خصيصا لحملات التعدي على من اصطلحت المجموعات الاجرامية على ما تم تسميته: بالغرباءّ!
ازدهرت الحضارة الأرمنية رغم كل المآسي والنكبات التي مرت عليها في أثناء حُكم الدولة الأرمنية في "كيليكيا" أي قيليقية، التي صارت إحدى أهم مراكز المعرفـة والفنـون. وانتجت نماذج رائعـة في الكتابـة والعمارة والزخرفة، وكان المبدعون من الارمن يدرسون اللاهوت المسيحي بالإضافة الى الجغرافية و الموسيقى، والرسم، والفنون..
مرَّت الحضارة الأرمنية عبر طريقين طويلين والى غنى وايمان وسلوك حضاري نابع من هدى التدين الذي التحقوا به. وقد أدى التمسك بالقيم الايمانيـة من قبل الأرمن، الى ازدياد في الحقد عليهم. وأثمر الفن والفكر المعرفي الأرمني عطاء وابداعا وبراعة حتى في العمل اليدوي الماهر.
مَرَّت الحضارة الارمنية بفترات رائعة من الرُقي، ابتداء من القرن الخامس الميلادي، أي بعد ابتداع الحروف الأبجدية، وما تَبعَ ذلك من ازدهار في الترجمـة وإنتاج روائع عديدة من الفن المعماري الأرمني. لكن المواطن الأرمني عانى وتألم، تحت حكم السلاطين لكنه لم يستسلم لليأس أبداً، بل رفع طرف عينه ليرى نور الحرية، بالرغم من الكثير من عذابات السجن والنفي والترحيل القسري المهين، وهو ما وصل الى مستوى الابادة.
بسبب الظروف السياسية السائدة، وتحت تأثير الضعف في الإمبراطورية العثمانية، لجأ الامبراطور العثماني الى التحالف غير المعلن، مع الجمعيات السرية الناشطة في تركيا، تحت اسم تركيا الفتاةـ او جمعية الاتحاد والترقي، الى زرع الازلام والسجناء الفاسدين، واطلاقهم في تتبع مسيرات ترحيل المذل للأرمن، وقتل واختطاف النساء والبطش بالبعض الاخر، وقتل واغتصاب الفتيات، اثناء سيرهم المرهق والطويل. كانت مسيرات الابعاد في تلك المرحلـة غير مبررة ولا مفهومـة، خصوصا ولو اخذنا بعين الاعتبـار ان الجمعيات السريـة التركيـة آنذاك كانت تهدف الى القضاء على السلطنـةـ واستبدالها بحكم جمهوري، الا ان الكره تجاه الشعب الأرمني قد يكون اقوى في حشايا حطام الحكم العثماني في حينه، ونقصد بهذا القول شخص السلطان نفسه.
تعيش الشعوب في مسيرتها التاريخية في لحظات، كأنها صُمِّمَتْ وخّصِّصَتْ لها وحدها دون غيرها. وتعتبر مثل هذه الفترات، مصيرية وتبقى في الذاكرة القومية دون أن تتزعزع مهما تغيَّرَتِ الشروط والظروف. وبهذا المعنى فان عملية القتل و الابعاد القسري للأرمن، في ظل مرحلة الانهيار العثماني أتت لتثبت ان هذا الشعب لم بقهر رغم كل العذابات التي مربها، ولن يقهر!