إلغاء 'البريفيه' لإخفاء الأسوأ؟
مقالات وتحقيقات |
الثلاثاء ٨ حزيران ٢٠٢٤
السيناريو «الأمني» المفتعل لإلغاء شهادة البريفيه يخفي ما هو أسوأ. ضعف الجاهزية للامتحان وفقدان السيطرة على النتائج بسبب المنحى التراجعي في المكتسبات المعرفية، وضغوط الجهات المانحة الدولية، كلها عوامل تجعل تداعيات الإلغاء أقلّ حرجاً على وزارة التربية من إجراء الامتحان.
يشبه قرار مجلس الوزراء إلغاء شهادة البريفيه، بمعزل عن رأي المرجعية التربوية والأكاديمية، إلى حد كبير، قرار وقف العمل بالتوقيت الصيفي. لم يفكّر أي من الوزراء بتداعيات القرار، ولا بكلفته المعنوية والمادية والتربوية على عشرات آلاف التلامذة وعائلاتهم ومعلميهم الذين مرّوا بضغوط نفسية على مدى أسابيع.
وكان وزير التربية عباس الحلبي، يؤكد، في كل مناسبة، أن الوزارة جاهزة لإجراء الامتحان، ولا سيما بعدما أمّن التمويل اللازم، والتجهيز، والقرطاسية، والأساتذة المراقبين لجميع المراكز، بحسب زعمه. ولكن ماذا عن جاهزية التلامذة؟
أجرى الباحث في مركز الدراسات اللبنانية، محمد حمود، دراسة شملت أكثر من ألف مشارك من البريفيه والثانوية العامة، من مختلف المناطق، (60% رسمي و40% خاص)، أظهرت أن 28% (44% من البريفيه و21% من الثانوية العامة) فقط من تلامذة لبنان في التعليم الرسمي جاهزون لإجراء الامتحانات. النسب متدنية، ويعود ذلك إلى إحساس ثابت بعدم كفاءة سنوات التعليم السابقة والحالية في إعداد التلامذة للعبور إلى المرحلة الآتية. وقد عكس الاستبيان مخاوف كبيرة لدى التلامذة تشير إلى ضعف جاهزيتهم لمتابعة تعليمهم في المرحلة الجامعية، إذ إن 15% من تلامذة المدارس الرسمية، و38% من المدارس الخاصة فقط، اعتبروا أن السنوات الثلاث الأخيرة أعدّتهم لإكمال مسيرتهم التعليمية.
تُبرز هذه النسب مؤشرات واضحة إلى ضعف الجاهزية، مقارنة بالسنوات التي سبقت جائحة كورونا. وبذلك، فإن المكتسبات المعرفية والمهارات التي حصّلها التلامذة لا تستجيب لتوقعاتهم ولتأهيلهم لمتابعة مسيرتهم التعلّمية، ولا يشعرون بأنهم يمتلكون ما يكفي من معارف وأدوات لتجاوز الامتحان، وبالتالي لا تعبّر الامتحانات عن مقدراتهم الكامنة التي قلّصتها سنوات تعليم متعثرة.
إلغاء الامتحان أتى كحلٍّ إنقاذي لوزارة التربية لإخفاء ما هو أسوأ. ففي دراسة تقييمية للأداء التعليمي في المدارس الرسمية أعدّها برنامج «كتابي - 2» (المموّل من الوكالة الأميركية للتنمية الدولية)، عام 2022، ونُشرت على موقع المركز التربوي للبحوث والإنماء، يتبين أن هناك تراجعاً مستمراً منذ عام 2018، ولا سيما في مواد اللغات العربية والأجنبية والرياضيات. وفي التقييم العام، واجه تلامذة السادس الأساسي صعوبة في الإجابة على أسئلة الفهم الأساسية وفهم المفردات، إضافة إلى أنهم تعثّروا في حل مسائل رياضية بحسب مستواهم. وقدّر المعلمون أن مستوى معظم التلامذة أدنى من مستوى صفهم بعامين كاملين. وهذا الأمر ينطبق على كل الصفوف، ما يعني عملياً أن مستوى تلامذة البريفيه (التاسع الأساسي) هذا العام لا يتجاوز مستوى السابع الأساسي، وهم سيمتحنون بمستوى أعلى من مكتسباتهم، ما قد يحدث فضيحة، فالقسم الأكبر منهم غير قادرين على الكتابة أو فهم المطلوب في الامتحان، أو الإجابة على الأسئلة خطياً لافتقارهم إلى مهارات لغوية أساسية، مثل الكتابة والتعبير في مختلف اللغات، كما يظهر في الدراسة.
كذلك احتسبت الدراسة أيام التدريس الفعلية في المدارس الرسمية التي لم تتجاوز 300 يوم تدريس فعلي خلال خمس سنوات بين عامي 2018 و 2022 من أصل 850 يوماً (على أساس أن السنة الدراسية تساوي 170 يوماً)، فضلاً عن تقليص المنهج إلى 35% من المنهج الأساسي، وضياع 21 شهراً أيام الإغلاق الصحي. فمن كان في الخامس الأساسي عام 2018 - 2019 صار اليوم في البريفيه، والمطلوب منه أن يُمتحن بمستوى التاسع الأساسي، وهو لم يتعلم ما يوازي سنتين من أصل خمس.
كما تعرض الدراسة مقارنة بين نتائج تقييم الأداء بين عامين 2018 و2022 التي تظهر تراجعاً يصل إلى 50% من النقاط في اللغات والرياضيات.
يشعر التلامذة بهذا النقص وقد عبّروا عنه في استبيان مركز الدراسات اللبنانية، وهو في الواقع، السبب الأول في إلغاء الامتحان. فتداعيات إلغاء البريفيه على وزارة التربية أقل حرجاً من نتائجها، والوزارة تخشى أن تعلو صرخة المصحّحين لجهة أن التلامذة في غالبيتهم لم يفهموا الأسئلة بالرغم من سهولتها ولم يكتبوا جملاً أو كلمات صحيحة أو مفهومة باللغات كافة. ومهما حاولت الوزارة تسهيل الامتحانات وتقليص المنهاج وتسهيل المراقبة فلن تصل إلى النتائج المرجوّة وسيظهر فشلها في تحقيق التزامها أمام الجهات المانحة، فهي لم تستطع سد فجوة المساواة بين التعليمين الخاص والرسمي وبتيسير سنة دراسية منصفة لكل تلامذة لبنان.
إلى ذلك، يحدد برنامج RACE2 في الملف الرقم RES49082 WB: المنشور على موقع البنك الدولي المخرجات المتوقّعة مع نهاية المشروع (عام 2021) ويفترض أن لا تقل نسب نجاح العابرين من المرحلة المتوسطة إلى المرحلة الثانوية والتي يجب أن تلتزم بها الدولة اللبنانية، عن 91%، بسبب تدفق أموال المانحين لتحسين جودة التعليم قبل الأزمتين الصحية والاقتصادية. والنتائج التي حقّقها الطلاب في الشهادتين المتوسطة والثانوية في الشكل ليست بعيدة، إذ شهدنا العام الماضي نسب نجاح متزايدة، رغم تضخم الفقدان التعليمي والهوة في جودة التعليم بين التعليمين الخاص والرسمي بين عامي 2018 و2022، إذ رَاوحت نسب النجاح في البريفيه بين 75% و80%، أما نتائج الثانوية العامة فراوحت بين 80%و94% عام 2022. وفي هذا الإطار، لاحظنا أن متوسط نسبة النجاح في التعليم الرسمي لامس 68% مقابل 86% في الخاص، ومن المتوقع أن تزداد الهوة بينهما هذا العام بسبب تضخم الفقدان التعليمي. الدراسات تؤكّد هذا المنحى التراجعي في المكتسبات المعرفية، والذي سينعكس على البريفيه مهما حاولت الوزارة التعمية على المشكلة.
بمعنى آخر، إن رفع نسب النجاح لا يعني أبداً تحسّن جودة التعليم، بل العكس. والإجراءات المتبعة من الوزارة بزيادة علامات الاستدراك أو تسهيل الأسئلة أو غضّ النظر في أثناء المراقبة أو تقليص المنهج، هي بمثابة غشّ أو تعمية منظّمة عن الحقائق بهدف رفع معدلات النجاح لاسترضاء الجهات الدولية. التعامل بواقعية مع الفقدان التعليمي هو الأمر السوي، والنجاح أو العبور من مرحلة تعليمية إلى أخرى ليس مسألة مالية أو إحصائية، فالمعارف والمكتسبات والمهارات التعليمية يجب أن تتحقق وهي الخسارة الكبرى في ظل السياسة الحالية لوزارة التربية.